كثيرًا ما يكون الاختلاف خلافًا في مجتمعاتنا. لا يسلمُ أحدٌ من الانتقادات والتّنمّر عندما يختار طريقًا قد لا يكون “مألوفًا” اجتماعيًّا؛ وفيما يتم تأطير كلّ من الرّجل والمرأة في قوالب مُحدّدة تُعنونها التّقاليد والعادات، يجرؤ البعض على كسرِ هذه القوالب ليلتمس شيئًا من الحرّيّة وحقّ الاختيار، إلّا أنّهم يُواجهون بضغطٍ اجتماعيّ قد يمنعهم أحيانًا من مواصلةِ حُلُمهم. فكيف إذا كان الحالِمُ رجلًا، والحُلُم الرّقص.
الرّقص الشّرقي للرّجال أيضًا
اختار غندور حنّون، مدرّبٌ ومصمّمٌ للرّقص، تعليم الرّقص الشرقي لكسر الصورة النّمطيّة حول الرّجل في هذا المجال. يعي حنّون أنّ اختياره لهذا النّوع من الرّقص يأتي مع تحدّيّات كبيرة في مجتمعنا. إلّا أنّ ما يُمليه عليه المجتمع لم يوقفه من أن يقتنص فرصته بتحقيق الهدف وراء موهبته، ومعه سرّ سعادته.
ويقول لـ”أحوال”، “الرّقص لنا أيضًا، هو ليس حكرًا على النّساء. الرّجال قادرون على تعليم وإتقان الرّقص الشّرقي أكثر من النساء حتّى. ففي العصور القديمة، أوّل من بدأ الرّقص كانوا رجالًا”.
وفي هذا السّياق، يوضّح حنّون أنّ المجتمع يضع الرّجل في خانةٍ مُحدّدة قد لا تعبّر عنه، “لِمَ على الرّجل أن يلعب كرة القدم مثلًا أو الملاكمة فقط؟ ما لا يفهمه مجتمعنا أنّ الرّقص رياضة أيضًا. في الغرب، يتمتّع الرّجل بمساحةٍ للتّعبير عن نفسه عبر الرّقص. على النّاس أن تعلم أنّ الرّقص الشّرقي للرجال أيضًا، وعلى كلّ رجلٍ أن يتبع ما يمليه عليه قلبه وينسى آراء النّاس”.
ضغوطات اجتماعية تسرق حُلُم الرّجال
يعتبر حنّون أنّ الرّجال يتعرّضون لضغوطاتٍ اجتماعيّة كبيرة عندما يتعلّق الأمر بالرّقص، “دائمًا ما يحدّثني الرّجال عن مدى رغبتهم بتعلّم الرّقص الشّرقيّ، ولكنّهم يخافون نظرة المجتمع. فيما تحبّ النّساء أنّ يعلّمهنّ رجلٌ الرّقص، فالشاب يُدرك جيّدًا ما سرّ جمال المرأة ويُعطيها المفتاح لإبرازه”.
ويتابع، “يقدّم الرّقص الشّرقيّ لياقةً بدنيّة عالية وتغييرًا نحو الأفضل على المستوى الشّخصي، للرّجال وللنّساء على حدٍّ سواء. الرّقص تهذيب للنّفس والرّوح ومصدر للثّقة بالنّفس”.
تنمّرٌ جارح
يقول حنّون إنّ المجتمع غير داعمٍ أبدًا، “هناك أشخاصٌ داعمون في مجتمعنا، إلّا أنّ غير الداعمين هم كُثر ويجرحون بكلماتهم. يتنمّر الكثير عليّ وعلى رجالٍ آخرين في هذا المجال، غير أنّ عائلتي ساعدتني على تخطّي كلامهم. أهلي كانوا الدّاعم الأبرز لي منذ طفولتي، يعلمون أنّ الرقص هو سعادتي، ولا أعتقد أنّ هناك أيّ أمٍ أو أبٍ لا يريد أن يرى أبناءه سعداء”.
الرّجل ورقص الباليه
لا يقتصر الأمر على الرّقص الشّرقيّ. فيهوى بعض الرّجال أنواعًا أخرى من الرّقص الّتي يصنّفها المجتمع على أنّها نسائيّة فقط كالباليه. تحدّى الشّاب منير السّيروان مجتمعه وأهله لتعلّم الباليه الكلاسيكيّ. تردّد الشّاب العشرينيّ في بادئ الأمر، واختار أنواعًا أخرى من الرّقص كالـ”هيب هوب” أو الـ”برايك دانس”.
تشجّع السّيروان مع الوقت وبدأ يدرس الباليه في أحد المعاهد في بيروت. يعتبر السّيروان أنّ الرّجل مقيّد للغاية في مجتمعنا، ويقول لـ”أحوال”، “المجتمع يمنع الرّجل من أن يُعجب بالباليه أصلًا. الصّورة عن الباليه في مجتمعنا خاطئة، فهو ليس فقط للنّساء. ما جذبني للباليه هو الطّاقة فيه والقوّة الّتي عليك وضعها خلال الرّقص. ويتابع، الباليه الكلاسيكيّ من أصعب أنواع الرّقص، لأنّه يتطلّب قوّة جسديّة وفكريّة؛ هو اختبارٌ لصبر الإنسان بالفعل. ينحت الباليه جسم الرّجل، فأنا لا أرتاد النّادي الرّياضيّ كون الباليه كافيًا لتقوية عضلاتي”.
دعمٌ اجتماعيّ مفقود
لم تكن البداية سهلةً على السّيروان، الّذي كان عليه اجتياز العقبات وحيدًا، “لم أتلقَّ الدّعم في بادئ الأمر لا من أهلي ولا حتّى من أصدقائي. كنت أذهب إلى الصّف دون علم أحد. سخر مني بعض الأصدقاء، فكانوا يستغربون دومًا فكرة أنّ رجلًا قد يدور حول نفسه مرتديًا تنّورةً زهريّة. وعندما عَلِم والدي بالأمر انزعج كثيرًا في البداية، لكنّه تقبّل الفكرة الآن إلى حدٍّ ما”.
تحدّيات الرّجل العربيّ
يحاول السّيروان كسر الصّورة النّمطيّة عن راقص الباليه وأن يُعرّف النّاس أكثر عن هذا الفنّ، حيث أنّ “مجتمعاتنا تجهل فنّ الباليه ومدى القّوة الّتي يتطلّبها، فهو تحدٍّ لأجسامنا. أشارك النّاس مقاطعاً من تدريباتي على مواقع التّواصل لكسر الصّورة النّمطية عن الرجل الّذي يختار الباليه. يصلني أحيانًا تعليقات جارحة، إلّا أنّني مصرٌّ على أن يرى النّاس رجلًا عربيًّا يرقص الباليه”.
ويتابع بالقول “على الرّجل العربيّ أن يحقّق شغفه في الحياة. إن لم نَقُم بما نحبّ سنبقى مكبّلين ومأسورين للمجتمع. كان صعبًا عليّ أن أدرس الباليه من دون أيّ دعم، وأن أكون الرّجل الوحيد بين عشرين امرأة في الصّف. لكنّني سأبقى أقوم بما أحبّ علّ الرّجال يتشجّعون، وربّما نصبح عشرين رجلًا في الصفّ حينها”.
تفتقد مجتمعاتنا إلى الإيمان بأنّ اختلاف الآخر ليس تهديدًا. التّهديد الحقيقيّ الّذي قد يواجه مُجتمعنا، هو عندما تُقفل الأفواه، ويصبح الحُلُم قيد الآخرين. لا يعلق الحُلُم بين “الصّح” و”الخطأ”، فهو أبعد من ذلك بكثير. بل لربّما هو الحلّ الأوّل والأصدق لتقدّم مجتمعاتنا. فنهوض المجتمعات يحتاج إلى نساءٍ ورجال، وكي يلعب كلٌّ دوره الصّحيح عليهم أن يحلموا.
شادي ملاك